فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقولهم: جزاؤه من وجد في رحله، كلام من لم يشك أنهم براء مما رموا به، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته، فكأنهم يقولون: لا يمكن أن نسرق، ألا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا.
وكان في دين يعقوب استعباد السارق.
قال الزمخشري: سنة، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، ولذلك أجابوا على شريعتهم، وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوهًا: أحدها: أن يكون جزاؤه مبتدأ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، فهو جزاؤه جواب الشرط، أو خبر ما الموصولة، والجملة من قوله: من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول، والضمير في قالوا: جزاؤه للسارق قاله ابن عطية: وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط.
الثاني: أنّ المعنى قالوا: جزاء سرقته، ويكون جزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر.
والأصل جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو.
فموضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فتقول: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من، والثاني إلى الأخ.
ثم تقول: فهو أخوه مقيمًا للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري.
ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو: زيد قام زيد.
وينزه القرآن عنه.
قال سيبويه: لو قلت كان زيد منطلقًا زيد، لم يكن ضد الكلام، وكان هاهنا ضعيفًا، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقًا هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمره.
الثالث: أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول: من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم، ثم تقول: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم} قاله الزمخشري.
وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله: المسؤول عنه جزاؤه، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة، إذ قد علم من قوله: فما جزاؤه أنّ الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته، فأي فائدة في نطقهم بذلك؟ وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي.
الرابع: أن يكون جزاؤه مبتدأ أي: جزاء سرقة الصاع، والخبر من وجد في رحله أي: أخذ من وجد في رحله.
وقولهم: فهو جزاؤه، تقرير لحكم أي: فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك: حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤه، أو فهو حقه، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال: ويصح أن يكون من خبرًا على أنّ على أنّ المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من، ويكون قوله: فهو جزاؤه، زيادة بيان وتأكيد.
ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله: فهو جزاؤه.
وهذا القول هذا الذي قبله، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لابد من تقديره، لأنّ الذات لا تكون خبرًا عن المصدر، فالتقدير في القول قبله جزاؤه أخذ من وجد في رحله، أو استرقاق هذا لابد منه على هذا الإعراب.
وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف.
كذلك أي: مثل الجزاء، وهو الاسترقاق.
نجزي الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}
بنيامينَ أي ضمه إليه في الطعام أو في المنزل أو فيهما. روي أنهم لما دخلوا عليه قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم ثم أضافهم وأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيدًا فبكى وقال: لو كان أخي يوسفُ حيًا لأجلسني معه، فقال يوسف: بقيَ أخوكم فريدًا وأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ثم أنزل كلَّ اثنين منهم بيتًا فقال: هذا لا ثانيَ معه فيكون معي فبات يوسف يضمه إليه ويَشمُّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال: لي عشرةُ بنينَ اشتققْتُ أسماءهم من اسم أخٍ لي هلك، فقال له: أتُحِب أن أكون أخاك بدلَ أخيك الهالِك؟ قال: من يجدُ أخًا مثلك ولكن لم يلدْك يعقوبُ ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وتعرف إليه وعند ذلك: {قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي فلا تحزن: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير ولا تُعلِمْهم بما أعلمتك، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن وهْبٍ أنه لم يتعرّف إليه بل قال له: أنا أخوك بدل أخيك المفقودِ ومعنى فلا تبتئس لا تحزنْ بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمِنْتَهم. وروي أنه قال له: فأنا لا أفارقك، قال: قد علمتُ باغتمام والدي بي فإذا حبستُك يزاد غمُّه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسُبَك إلى ما لا يجمُل، قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك، قال: أدُسّ صاعي في رَحْلك ثم أنادي عليك بأنك سرقتَه ليتهيّأ لي ردُّك بعد تسريحِك معهم، قال: افعلْ.
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية} أي المشرَبةَ، قيل: كانت مشربة جعلت صاعًا يكال به، وقيل: كانت تسقى بها الدوابُّ ويكال بها الحبوب وكانت من فضة، وقيل: من ذهب، وقيل: من فضة مموّهة بالذهب، وقيل: كانت إناءً مستطيلًا تشبه المكّوك الفارسيَّ الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم، وقيل: كانت مرصّعة بالجواهر: {فِى رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامين وقرئ {وجعل} على حذف جواب لما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} نادى منادٍ: {أَيَّتُهَا العير} وهي الإبلُ التي عليها الأحمالُ لأنها تعير أي تذهب وتجيءُ، وقيل: هي قافلة الحمير ثم كثُر حتى قيل لكل قافلة عِيرٌ كأنها جمع عَيْر وأصلها فعل مثل سَقْف وسُقُف ففعل به ما فعل ببِيض وغِيد، والمراد أصحابُها كما في قوله عليه السلام: «يا خيلَ الله اركبي»، روي أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسفُ حتى انطلقوا منزلًا، وقيل: خرجوا من العمارة ثم أمر بهم فأُدرِكوا ونودوا: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} هذا الخطابُ إن كان بأمر يوسف فلعله أريد بالسرقة أخذُهم له من أبيه ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب وإلا فهو من قبل المؤذّن بناء على زعمه والأولُ هو الأظهرُ الأوفق للسياق، وقرأ اليماني {سارقون} بلا لام: {قَالُواْ} أي الإخوة: {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ} جملةٌ حالية من ضمير قالوا جيء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم: {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} أي تعدَمون، تقول: فقَدت الشيء إذا عدِمته بأن ضل عنك لا بفعلك والمآل ماذا ضاع عنكم، وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة وقرئ {تُفقِدون} من أفقدته إذا وجدته فقيدًا وعلى التقديرين فالعدولُ عما يقتضيه الظاهرُ من قولهم: ماذا سُرق منكم لبيان كمال نزاهتِهم بإظهار أنه لم يُسْرق منهم شيء فضلًا أن يكونوا هم السارقين له وإنما الممكنُ أن يضيع منهم شيء فيسألوهم أنه ماذا، وفيه إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسنِ الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البُرَاء إلى ما لا خير فيه لاسيما بطريق التوكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث {قَالُواْ} في جوابهم: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} ولم يقولوا سرقتموه أو سرق وقرئ {صاع} و{صوع} و{صوع} بفتح الصاد وضمها وبإهمال العين وإعجامها من الصياغة ثم قالوا تربية لما تلقوه من قبلهم وإراءة لاعتقاد أنه إنما بقى في رحلهم اتفاقا: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ} من عند نفسه مظهرًا له قبل التفتيش: {حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام جعلا له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع وجود الشرط وعزمهم على ما لا يخفى من أخذ من وجد في رحله: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن: {قَالُواْ تالله} الجمهور على أن التاء بدل من الواو ولذلك لا تدخل إلا على الجلالة المعظمة أو الرب المضاف إلى الكعبة أو الرحمن في قول ضعيف ولو قلت تالرحيم لم يجز وقيل من الباء وقيل أصل بنفسها وأيًا ما كان ففيه تعجب: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} علمًا جازمًا مطابقًا للواقع: {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} أي لنسرق فإنه من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان مما عز أو هان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ونفى المجئ للإفساد وإن لم يكن مستلزمًا لما هو مقتضى المقام من نفى الإفساد مطلقًا لكنهم جعلوا المجئ الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئًا لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهار لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم كما قيل في قوله تعالى: {ما يبدل القول لدى وما أنا بظلاَّمٍ للعبيد} الدال بظاهره على نفى المبالغة في الظلم دون نفى الظلم في الجملة الذي هو مقتضى المقام من أن المعنى إذا عذبت من لا يستحق التعذيب كنت ظلامًا مفرطًا في الظلم فكأنهم قالوا إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه يعنون أنه قد شاع بينكم في كرتى مجيئنا ما نحن عليه وقد كانوا على غاية ما يكون من الديانة والصيانة فيما يأتون ويذرون حتى روى أنهم دخلوا مصر وأفواه رواحلهم مكمومة لئلا تتناول زرعا أو طعامًا لأحد وكانوا مثابرين على فنون الطاعات وعلمتم بذلك أنه لا يصدر عنا إفساد: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أي ما كنا نوصف بالسرقة قط وإنما حكموا بعلمهم ذلك لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الغائبة وإنما لم يكتفوا بنفى الأمرين المذكورين بل استشهدوا بعلمهم بذلك إلزامًا للحجة عليهم وتحقيقًا للتعجب المفهوم من تاء القسم.
{قَالُواْ} أي أصحاب يوسف عليه السلام: {فَمَا جَزَاؤُهُ} الضمير للصُّواع على حذف المضاف أي فما جزاء سرقتِه عندكم وفي شريعتكم: {إِن كُنتُمْ كاذبين} لا في دعوى البراءةِ عن السرقة فإنهم صادقون فيها بل فيما يستلزمه ذلك من نفي كون الصواعِ فيهم كما يؤذِن به قوله عز وجل: {قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ} أي أخْذُ مَنْ وُجد الصواع: {فِى رَحْلِهِ} حيث ذكر بعنوان الوُجدان في الرحل دون عنوان السرقةِ وإن كان مستلزِمًا لها في اعتقادهم المبنيِّ على قواعد العادة، ولذلك أجابوا بما أجابوا فإن الأخذَ والاسترقاقَ سنةً إنما هو جزاءُ السارقِ دون من وُجد في يده مالُ غيره كيفما كان فتأمل واحمِلْ كلام كل فريقٍ على ما لا يزاحِم رأيَه فإنه أقربُ إلى معنى الكيد وأبعدُ من الافتراء، وقوله تعالى: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقريرٌ لذلك الحكمِ أي فأخذُه جزاؤه كقولك: حقُّ الضيف أن يكرم فهو حقه، ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأً والجملة الشرطية كما هي خبرُه على إقامة الظاهر مُقامَ المضمر، والأصل جزاؤُه من وجد في رحله، فهو على أن الأول لمن والثاني للظاهر الذي وضع موضعه: {كذلك} أي مثل ذلك الجزاءِ الأوفى: {نَجْزِى الظالمين} بالسرقة، تأكيدٌ للحكم المذكور غِبَّ تأكيدٍ وبيانٌ لقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقةً بكمال براءتِهم عنها وهم عما فُعل غافلون. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ ءاوى} أي ضم: {إِلَيْهِ أَخَاهُ} بنيامين، قال المفسرون: إنهم لما دخلوا عليه عليه السلام قالوا: أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، وبلغوه رسالة أبيهم، فإنه عليه السلام لما ودعوه قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا، وقال أبو منصور المهراني: إنه عليه السلام خاطبه بذلك في كتاب فلما قرأه يوسف عليه السلام بكى ثم أنه أكرمهم وأنزلهم وأحسن نزلهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحيدًا فبكى وقال: لو كان أخى يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف عليه السلام: بقى أخوكم وحده فقالوا له: كان له أخ فهلك قال: فأنا أجلسه معي فأخذه وأجلسه معه على مائدة وجعل يؤاكله، فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال: ينام كل اثنين منكم على فراش فبقي بنيامين وحده فقال: هذا ينام عندي على فراشي فنام مع يوسف عليه السلام على فراشه فجعل يوسف عليه السلام يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك أيها الملك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وتعرف إليه عند ذلك: {قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي فلا تحزن: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك، والقول بأنه عليه السلام تعرف إليه وأعلمه بأنه أخوه حقيقة هو الظاهر.
وروي عن ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما إلا أن ابن اسحق قال: إنه عليه السلام قال له بعد أن تعرف إليه: لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم، قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إلى ما يعمله فتيانه عليه السلام من أمر السقايه ونحو ذلك، وهو لعمري مما لا يكاد يقول به من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقال وهب: إنما أخبر عليه السلام أنه قائم مقام أخيه الذاهب في الود ولم يكشف إليه الأمر، ومعنى: {لا تَبْتَئِسْ} الخ لا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم، وروي أنه قال ليوسف عليه السلام: أنا لا أفارقك قال: قد علمت اغتمام والدي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك قال: فاني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال: افعل.
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} ووفى لهم الكيل وزاد كلا منهم على ما روي حمل بعير: {جَعَلَ السقاية} هي إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس، وقيل: كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب، وكانت من فضة مرصعة بالجواهر على ما روي عن عكرمة أو بدون ذلك كما روى عن ابن عباس والحسن وعن ابن زيد أنها من ذهب، وقيل: من فضة مموهة بالذهب، وقيل: كانت إناء مستطيلة تشبه المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم، يروى أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك، والظاهر أن الجاعل هو يوسف عليه السلام نفسه، ويظهر من حيث كونه ملكًا أنه عليه السلام لم يباشر الجعل بنفسه بل أمر أحدًا فجعلها: {فِى رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامين من حيث يشعر أو لا يشعر.
وقرئ: {وَجَعَلَ} بواو، وفي ذلك احتمالان.
الأول أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين وما بعدها هو جواب: {لَّمًّا} والثاني أن تكون عاطفة على محذوف وهو الجواب أي فلما جهزهم أمهلهم حتى انطلقوا وجعل: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} نادى مسمع كما في مجمع البيان، وفي الكشاف وغيره نادى مناد.
وأورد عليه أن النحاة قالوا: لا يقال قام قائم لأنه لا فائدة فيه.
وأجيب بأنهم أرادوا أن ذلك المنادي من شأنه الأعلام بما نادى به بمعنى أنه موصوف بصفة مقدرة تتم بها الفائدة أي أذن رجل معين للأذان: {أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} وقد يقال: قياس ما في النظم الجليل على المثال المذكور ليس تتم في محله وكثيرًا ما تتم الفائدة بما ليس من أجزاء الجملة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزن الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن» والعير الإبل التي عليها الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء، وهو اسم جمع لذلك لا واحد له، والمراد هنا أصحاب العير كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» وذلك اما من باب المجاز أو الإضمار إلا أنه نظر إلى المعنى في الآية ولم ينظر إليه في الحدبث وقيل: العير قافلة الحمير ثم توسع فيها حتى قيلت لكل قافلة كأنها جمع عير بفتح العين وسكون الياء وهو الحمار، وأصلها عير بضم العين والياء استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم كسرت العين لثقل الياء بعد الضمة كما فعل في بيض جمع أبيض وغيد جمع أغيد، وحمل العير هنا على قافلة الإبل هو المروى عن الأكثرين، وعن مجاهد أنها كانت قافلة حمير، والخطاب: {بِأَنَّكُمُ لَسَارِقُونَ} ان كان بأمر يوسف عليه السلام فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه على وجه الخيانة كالسراق؛ ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب أو أريد سرقة السقاية، ولا يضر لزوم الكذب لأنه إذا اتضمن مصلحة رخص فيه.